آخر الأحداث والمستجدات
سنة أمازيغية سعيدة
في مستهل هذا العام الأمازيغي الجديد، لا يخفى على أحد ضرورة إلتزام المثقف المغربي بالقيم الإجتماعية و الإنسانية للتعبير عن مشاعر و حاجات مجتمعه، الذي يعيش على إيقاع ساخن من التنكر لمكونات و هويات جسمه الوطني و قضاياه الإنسانية، الصغيرة منها و الكبيرة.
لقد تم الخلط بين الهويات السياسية و الهويات الثقافية مدة طويلة من الزمن، كما تم الخلط - كذلك – بين الثقافة المدنية و العرقية. و الواقع أننا في حاجة اليوم إلى أن نبحث على مساحة ضوء جديدة لتفسير المجالات التي يمكن أن نبحث فيها و نعيد فحص الظروف التي أنتجتها و ساعدتها على البقاء.
ما نعيشه اليوم من مشكلة ثقافية، يتجلى في وعينا المحتشم بالمعاصرة، حيث لا زلنا في حاجة إلى جهد فردي و جماعي لربط هذه الأخيرة بعنصري الإسهام الإيجابي و الإلتزام، و الذي يعني الإعتزاز بالمكونات الأساسية للشعب المغربي و على رأسها الإعتراف الصريح بالأمازيغية نظريا و عمليا، و بكل المكونات الثقافية الجهوية و المحلية، بعاداتها و تقاليدها، و بالحرية الفكرية الشخصية التي تتأسس عليها، و عدم التنازل عن معاييرها و أفكارها رغم الضغوط الإيديولوجية و الإقتصادية و السياسية و كل أشكال الخنق الثقافي على حرية التفكير و الإنتماء و الخلق و الإبداع.
إن ما يجري في بلادنا حاليا من تعطيل لتفعيل العمل بالثقافات التاريخية و الوطنية و الجهوية و المحلية، يجعلنا نعيش و باستمرار بؤس زمننا. فالثقافة بعلمها و فكرها يجب أن تتسع رقعتها، بدل التضييق عليها. كما تتطلب إستفحال الحضارة، كما كان يقول المفكر الكبير إبن خلدون. حيث لازال هناك في المجتمع، مناطق واسعة ترزح تحت العتمة، غير مستقلة في ثقافتها بسبب هيمنة الثقافة المحافظة عليها، حيث تتوقف عليها الدولة العميقة أكثر مما تتوقف على وجود السلطة ( و هذا يحتاج إلى جهد فكري لتفسيره)، يجب اليوم الكشف عنها.
هذه المناطق من جغرافية المغرب، هي التي تخترق المجتمع و الدولة و نظام المعرفة. و في كل مناسبة من مناسبات الديناميات الجديدة، يصبح مطلب الإستقلال الثقافي، مطلبا حيويا يعزز سلامة الدولة و المنظومة المعرفية-الإيديولوجية، الضرورية لإستمرار المجتمع و الدولة.
و مشروع الاستقلال الثقافي هذا، يتميز بالإنفتاح على كل الثقافات، و يتجاوز البعد القومي الضيق. لأن المطمح هو الإنخراط في الثقافة الإنسانية ذات البعد الكوني.
و بصفة عامة، يمكن القول بأن ما يجمع فئات عريضة من المجتمع المغربي اليوم، هو وجود مواقف و أهداف و تصورات متقاربة في المجال الثقافي و كيفية تدبير الموروث منه..
هناك أدلة كثيرة تثبت أشكال و أنماط الإنتقال الثقافي لدى الإنسان، و لعل ما يثبت ذلك هو أن العلم يتطور بإستمرار، و المعرفة تنمي المؤسسات الجامعية و تقدم التقنية و و سائل التواصل و الإتصال و النشر، و الوعي الإجتماعي و السياسي يتطور و يحسم التقدم بنضج لصالح التنمية ضد التخلف. إنه التفسير التطوري الدينامي للمعرفة البشرية في ضوء أبعادها التطورية التاريخية.
و يعتبر ما يراكمه الناس من تعديلات متواكبة - في الإبداع و الإختراع- و من عمليات التعلم الثقافي و الأشكال الجديدة للتعلم الاجتماعي، مكسبا حضاريا، يساعدهم على نشوء و تكوين إجتماعي متجدد، مبدع و مواطن، و يجعل الأفراد يتوحدون مع مقاصد و أهداف، و ينخرطون و يندمجون من جديد في مهارات التعلم الثقافي، للبحث و صياغة إستراتيجيات إبتكارية و ذكية عند مواجهة المشكلات الإجتماعية.
إن تراجع الفكر الإشتراكي بكل فروعه، ترك فراغا كبيرا إستفاد منه الفكر القومي القائم على العرق و إعطاء الأولوية لما يقسم الناس على حساب ما يوحدهم. لكن رغم ذلك، أصبح من الواضح جدا أن الفكر التقدمي في العديد من أسسه و ميادينه المعرفية لا زال يحمل لواء حركات التحرير. و على رأس هذا اللواء، إعتماد التقدم كمفهوم يصلح للتطبيق على المستوى العلمي.
فإذا كانت اللبرالية قد حققت ذاتها في العديد من الديناميات المجتمعية، فهي كذلك كانت أفضل الإستجابات للرؤية الماركسية الخاصة بقضية التحرر و الإنعتاق ذات الطابع العالمي. لقد أصبحت مدينة نورنبرغ الألمانية منذ سنة 1945، رمزا للعدالة و حقوق الإنسان حين إحتضنت المحاكمات التي أجريت لمسؤولي النظام النازي بعد هزيمته أمام الحلفاء. و منذ ذلك الحين، تم إقرار مبدأ محاكمة الجرائم ضد الإنسانية في محاكمة دولية لمعاقبة مرتكبيها، و سار فيما بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (سنة 1948) مبشرا بعهد جديد و بمعايير يجب على كل الدول تطبيقها و إحترامها أمام المجتمع الدولي.
إن المواقف و المواجهات الإجتماعية و تحديات الحياة، تدفعنا اليوم للتفكير حول الثقافات البارزة المكونة للهوية الوطنية لكي لا يصب غضب الجماهير في الأصولية و الشوفينية العرقية-الثقافية. لأن مثل هذه الظواهر صار من المستحيل تجاهلها. و للتذكير فقط، نستحضر رائد أسس السوسيولوجيا، ماكس فيبر، الذي تناول "الفعل العرقي للجماعة المحلية"، حيث كان يعتقد أن مثل العرقية و القومية ستنمحي مع الحداثة و التصنيع و الفردانية. لكن بعد ما عاشته العديد من المجتمعات من حروب و صراعات إستمرت إلى اليوم، يؤكد من جديد أن الأشكال المتعددة لسياسات الهوية لا زالت تستحق كل البحث و الدراسة.
صحيح، يمكن القول أننا نعيش اليوم إنتهاء الأيديولوجيات الكبرى المستوحاة من نظريات القرن التاسع عشر. و حتى الأيديولوجية الوطنية التي أنبنت عليها الحركات التحررية منذ الخمسينات من القرن الماضي، لم يعد لها معنى. لذا، فالرجوع للبحث في أغوار الثقافة و تحرريرها من العرقية و الأصولية باعتبارها ثقافة الإنسانية المشتركة، هو ضرورة تاريخية من أجل بناء ثقافة تتعلق بالأفكار و القيم و الجمال، لمواكبة حركة الحاضر بأسلحة الإجتهاد و النقد في ضوء أسئلة الواقع المغربي، مسلحين في الآن نفسه بهاجس الوحدة بإعتبارها البديل المناسب لتجاوز محتلف عثرات و هزائم و اقعنا.
إن إمتحانات الواقع لن نستطيع تعريضها لأي إختبارات تعصف بها، و لأي إختلافات ثقافية مفتعلة قد تؤدي إلى الأصولية و العرقية و العنصرية.
في عالم اليوم، لا زالت الهويات ذات النزعة المحافظة تعمل على إعادة إنتاج موروثها، و لا زالت الهويات المزدوجة تصارع من أجل العيش بين الضفتين. و في المقابل، هناك العولمة و المحلية، و هما حسب العديد من الأنثروبولوجيين، عمليتان متداخلتان و تعتمد إحداها على الأخرى بالتبادل.
و في الأخير، هناك من التداخل ما يكفي لأن يجعل الآراء التي ندافع عنها آراء تنبذ كل توافق بين العرقية و الكراهية و إعلاء نعرة القومية. و أن أي تسييس لهويات الجماعات قد يجرنا إلى صراعات هامشية لن يستفيد منها سوى المحافظين، و أن النموذج الذي يجب أن نطمح له هو نموذج المواطنة، التي يشترك فيها جميع المواطنين في مجموعة حقوق المواطنة المشتركة نفسها. كما أن ظهور ثقافة حقوق الإنسان، و ما نتج عنها من نقض لشرعية الكراهية و العنصرية و العرقية، رفع من المثل العليا لحقوق الإنسان و جعلها تساعد في فهم الطريقة التي تشكلت بها القضايا المرتبطة بموضوع التعددية الثقافية، لكي تتوافق مع القيم و المعايير الحقوقية على الصعيد الدولي.
الكاتب : | المريزق المصطفى |
المصدر : | جامعة مولاي إسماعيل |
التاريخ : | 2014-01-13 13:40:02 |